- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الزراعة والثروة الحيوانية: مفاتيح الأمن الغذائي وركائز الاقتصاد الغائب

بقلم: كريم محسن
رغم الخلفية الأكاديمية لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني كمهندس زراعي، لم يشهد القطاع الزراعي في عهده نهضة تذكر، ولم تُوضع حتى “حجر أساس” لمشروع استراتيجي يُبنى عليه أمل باستعادة الريف العراقي أو إحياء حلم الاكتفاء الغذائي. ولعل هذا التناقض بين الاختصاص والإنجاز يفتح الباب على مصراعيه للحديث عن غياب الرؤية التنموية المتكاملة التي تربط بين الزراعة والصناعة والاقتصاد الوطني من جهة، وبين الأمن الغذائي والأمن الوطني من جهة أخرى.
إن العراق يمتلك من المقومات الطبيعية ما يجعله دولة رائدة في الإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية، لولا السياسات المرتبكة التي حولت هذه النعمة إلى عبء، وأهملت القطاع حتى كاد ينهار. إذ لا يمكن أن يستقر بلدٌ يستورد قوت يومه من خلف البحار، ولا يمكن لأي اقتصاد أن يصمد ما دامت بطون مواطنيه مرهونة بأسعار صرف الدولار ومواسم الحصاد في الدول الأخرى. فالزراعة والثروة الحيوانية ليستا هواية أو تراثًا فلكلوريًا، بل هما عماد الأمن الوطني ودرع السيادة الغذائية.
في بلدٍ تزيد نسبة البطالة فيه عن 20% رسميًا، ويرتفع الرقم بين الشباب والريف إلى أضعاف ذلك، يصبح الاستثمار في الزراعة وتربية الحيوانات مشروعًا مزدوج الفائدة: تشغيل الأيدي العاملة وتقليل الاستيراد. إذ أن معظم الدول النامية التي نجحت في كبح جماح البطالة والانفجار السكاني، بدأت بخطة طموحة للعودة إلى الأرض، وتحقيق دورة إنتاجية تجعل من الفلاح والراعي جزءًا من عملية البناء لا عالة على موازنة الدولة. فحين تعمل الحكومة على إنشاء مصانع تحويلية للمنتجات الزراعية والحيوانية، فإنها لا تسوق المحاصيل فقط، بل تخلق فرصًا للصناعات الغذائية، التعبئة، النقل، التخزين، والتسويق. وهذا وحده قادر على تحويل الريف من طارد للسكان إلى مركز جاذب للاستثمار.
للأسف، لم تظهر سياسات السوداني ما يُثبت أنه يعوّل على هذا القطاع في رؤيته الاقتصادية، بل ظل الانشغال بالجباية، المشاريع الخدمية المؤقتة، والاعتماد على الريع النفطي هو الملمح الأبرز لحكومته. ولم نسمع عن مشروع ضخم لإعادة تأهيل شبكات الري، أو استصلاح أراضٍ بور، أو تأسيس مجمعات حديثة لإنتاج الحليب واللحوم، أو حتى دعم إنتاج الأعلاف التي تشكل العصب الرئيس لتكلفة الإنتاج الحيواني. ويُضاف إلى هذا، غياب قوانين ضامنة لشراء المحاصيل بأسعار تشجيعية، أو حماية حقيقية للمنتج المحلي أمام الإغراق السلعي المستورد.
نحن نتحدث عن بلدٍ كان يُصدر التمور والحنطة والقطن، واليوم يستورد البيض والدجاج والرز والعدس، بل حتى اللبن والزبادي! والكارثة أن هذا التدهور لم يحصل بسبب الكوارث الطبيعية أو الحروب وحدها، بل نتيجة سياسات ممنهجة من الإهمال وغياب الرؤية وافتقار الجرأة على الإصلاح.
إن دعم الزراعة والثروة الحيوانية لا يكون بإعلانات موسمية، ولا بمهرجانات الفلاحين، بل بخطط حقيقية تبدأ من التعليم الزراعي وتنتهي بسياسات السوق. نحتاج اليوم إلى بنى تحتية زراعية متكاملة: سدود تحفظ المياه، شبكات ري حديثة، بنوك بذور وطنية، مختبرات بيطرية، وأجهزة رقابة صارمة على الأغذية المستوردة. كما نحتاج إلى دعم الباحثين الزراعيين ومربي الحيوانات، وتوفير القروض الميسرة لهم، وإعادة تأهيل الجمعيات التعاونية كأداة تنظيم وتمويل وتنمية.
وعلى الحكومة أن تعي أن الأمن الغذائي لم يعد ترفًا، بل صار شرطًا من شروط السيادة الوطنية. فالدول التي فقدت السيطرة على غذائها، فقدت في الغالب استقلال قرارها. والاعتماد على الاستيراد جعل اقتصاداتنا رهينة تقلبات الأسواق الدولية، وجعل الشعوب تفقد الثقة بقدرة أوطانها على توفير أبسط مقومات العيش. بينما الزراعة والصناعة الغذائية المستدامة تمنح المواطن ثقة بوطنه، وتمنح الدولة أدوات تفاوض حقيقية في علاقاتها الخارجية.
إن تطوير قطاع الزراعة والثروة الحيوانية لا يعني فقط زيادة الإنتاج، بل يتعدى ذلك إلى بناء مجتمع منتج، ومقاومة النزوح من الريف إلى المدينة، والتخفيف من حدة الفقر، وتقليل الاعتماد على النفط الذي أثبت التاريخ الحديث أنه نعمة مشروطة بلعنة التبعية.
إننا نحتاج إلى نهضة زراعية حقيقية، لا ترقيعات إعلامية. نهضة تبدأ من قرار سياسي شجاع، تُسخر فيه كل الطاقات البشرية والمادية لتوفير الماء، الأرض، البذور، الأعلاف، والرعاية البيطرية، وتنتهي بمصانع محلية تعبئ وتصنّع وتصدر. وما لم تفهم الحكومات العراقية المتعاقبة، وعلى رأسها حكومة السوداني، أن الزراعة ليست ترفًا أو قطاعًا ثانويًا، بل هي شريان الحياة لهذا البلد، فستبقى خيرات الأرض بلا حارس، ويظل الفلاح ينتظر دعمًا لا يأتي، والمواطن يتساءل عن مصير وطنٍ لا يزرع ما يأكل، ولا يربّي ما يلبس، ولا يخطط لأبعد من دورة انتخابية.
إن الزراعة والثروة الحيوانية ليستا ورقتين في ملف التنمية، بل هما كتاب كامل، من لا يعرف قراءته، فلن يعرف كتابة مستقبل وطنه.
أقرأ ايضاً
- المؤشّرات الاقتصادية الأمريكية في الربع الأول من هذا العام الآثار والتوقّعات
- السياسة التجارية للعراق.. من فرضية النمو الى الهدم الاقتصادي
- الأمن السيبراني وسوسيولوجيا القانون