
في خضم التحولات السياسية المتسارعة التي تشهدها البلاد وقرب إجراء الانتخابات التشريعية في العراق، تقف الجامعات عند مفترق طرق حاسم، تتنازعها تجاذبات السياسة وصراعات النقابات، وتثقل كاهلها الحسابات الانتخابية التي لم تعد تقتصر على الميادين الحزبية، بل تسللت إلى فضاءات المعرفة والأكاديميات.
فالمؤسسات الجامعية، التي من المفترض أن تكون منارات للعلم والبحث، بدأت تفقد شيئاً فشيئاً استقلالها الأكاديمي لصالح اصطفافات تفرضها الظروف السياسية القائمة، وسط تنامي نفوذ الفاعلين النقابيين الذين يوسّعون من دائرة حضورهم داخل الحرم الجامعي، ليس فقط للدفاع عن حقوق الأساتذة والطلبة، بل أيضاً للمشاركة في صياغة التوجهات العامة للجامعة بشكل مباشر أو غير مباشر، بحسب عديدين تحدثوا عن هذا الموضوع.
ووفق هذه التصريحات، فإن الجامعة لم تعد مجرد فضاء للتعليم والتكوين، بل تحوّلت إلى ساحة مفتوحة تتقاطع فيها رهانات حزبية ومطالب نقابية وحسابات انتخابية دقيقة، ما أربك أداءها وأضعف قدرتها على القيام بدورها الحيوي في التنمية المجتمعية، وفي ظل هذا المشهد المعقّد، تتباين المواقف بين من يرى في النقابات حصناً واقياً من تغوّل السياسة على الجامعة، وبين من يعتبرها طرفاً مؤثراً في تكريس الانقسام وتحويل المؤسسة الأكاديمية إلى امتداد لصراعات الشارع.
استياء طلابي من تسييس "الحرم الجامعي"
ويعرب عدد من طلبة الجامعات العراقية عن استيائهم المتزايد من محاولات إدخال السياسة إلى الحرم الجامعي، عبر تنظيم فعاليات ذات طابع انتخابي لكن بشكل غير مباشر تستهدف توجيه الطلبة نحو دعم جهات سياسية معينة.
وقال محمد الداودي، وهو طالب في كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد، إن "الحرم الجامعي بات يشهد نشاطات انتخابية تحت غطاء التوعية، لكنها في الواقع تحمل رسائل سياسية موجهة، نحن هنا لنتعلم، لا لنكون أدوات في حملات انتخابية".
من جهتها، أكدت سارة أحمد، طالبة في كلية الهندسة بالجامعة المستنصرية، أن "ما يسمى بندوات التوعية الانتخابية انحرفت عن هدفها، وتحولت إلى منصات تمجيد لجهات سياسية معروفة"، مبينة أنهم "شعروا بأن هناك محاولات واضحة للتأثير على قناعات الطلبة".
وفي السياق ذاته، أشار علي، طالب دراسات عليا في جامعة بغداد، إلى أن "بعض الإدارات الجامعية تغض الطرف، بل وتشارك أحياناً في هذه الفعاليات، الأمر الذي يضعف ثقة الطلبة بمؤسساتهم الأكاديمية، ويشكل خطراً على استقلالية التعليم".
من جانبها، حذرت زينب محمد وهي طالبة في جامعة النهرين، من "استغلال الجامعات الأهلية أيضاً في هذا السياق، حيث يتم تقديم تخفيضات ومكافآت انتخابية للطلبة مقابل وعود بدعم سياسي، وهو سلوك غير أخلاقي يستغل الظروف الاقتصادية للطلبة".
وطالب الطلبة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي باتخاذ إجراءات صارمة لضمان حيادية الحرم الجامعي، مؤكدين أن "الجامعة يجب أن تبقى مؤسسة علمية مستقلة، بعيداً عن الاستقطابات السياسية التي تهدد جوهر العملية التعليمية".
وفي شهر نيسان الماضي، صوت مجلس الوزراء العراقي، على تحديد 11 تشرين الثاني المقبل موعداً لإجراء الانتخابات النيابية في عموم المحافظات العراقية.
تحذيرات أكاديمية من "تسييس التعليم في العراق"
يذكر أن مجلس النواب العراقي قد صوت في الـ13 من كانون الثاني الماضي، على تمديد عمل مجلس المفوضين في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وذلك بعد قرار قضائي بتمديد ولاية أعضائه الحاليين لعامين إضافيين، الأمر الذي منح المفوضية الحالية إمكانية إجراء الانتخابات في موعدها المحدد في الـ11 من تشرين الثاني المقبل.
مهند الهلال، نقيب الأكاديميين السابق، الذي غادر منصبه مؤخراً، حذر من استمرار التدخلات السياسية التي وصفها بـ "المباشرة والمقلقة" في قطاع التعليم، خاصة مع ما تشهده المرحلة الحالية من "أعلى درجات الحرج منذ عقدين".
ويشير الهلال، إلى أن تحصين الجامعات يبدأ من إصلاح جذري لآليات اختيار القيادات الجامعية، وهو أمر لا يزال، حسب وصفه، "أقرب إلى المستحيل" في ظل الواقع السياسي الراهن، كما طالب بتعديل قانون التعليم الجامعي الأهلي لضمان الحصانة اللازمة للمؤسسات الخاصة، وحمايتها من التدخلات العارضة وغير المهنية.
ويضيف الهلال أن "موضوع الحريات الأكاديمية واستقلالية الجامعات يمثل اليوم الشغل الشاغل لكل المعنيين بمستقبل التعليم العالي في العراق"، معتبراً أن "هذه الاستقلالية ليست مجرد مطلب نقابي أو أكاديمي، بل مرتكز أصيل لرفعة التعليم والبحث العلمي والابتكار، وأساس لتطوير ونشر وتطبيق المعرفة".
وبحسب حديث الهلال، فإن الحرية الأكاديمية تحظى بحماية القوانين الدولية والدساتير المحلية، ومنها الدستور العراقي، إلا أن واقع الحال لا يعكس هذه الحماية، وسط غياب رؤية استراتيجية بعيدة المدى للنهوض بالتعليم، نتيجة تغير البرامج الحكومية مع كل دورة انتخابية.
ويسلط الهلال الضوء على ظاهرة ترشح ممثلين عن مستثمري الجامعات والكليات الأهلية للانتخابات التشريعية، معتبراً أن هذه الخطوة باتت تُستخدم كوسيلة "لحماية المصالح المؤسسية"، في ظل ما وصفه بـ "سلوكيات غير نزيهة" من قبيل تقديم المكافآت والتخفيضات للطلبة مقابل أصواتهم الانتخابية.
ويدعو الهلال إلى "ضرورة الحفاظ على الجامعة كمؤسسة مدنية مستقلة تمثل جميع العراقيين"، محذراً من "الانزلاق نحو اصطفافات حزبية ومناطقية وعشائرية تهدد التمايز العلمي، وتفاقم من أزمة الجودة التي تعاني منها الجامعات العراقية".
كما انتقد استمرار المركزية الإدارية وغياب أبسط معايير الحرية الأكاديمية داخل الحرم الجامعي، مطالباً بإصلاحات شاملة لضمان بيئة أكاديمية حرة ومستقلة.
وبدأت الدورة الحالية لمجلس النواب العراقي يوم 9 من كانون الثاني 2022، فيما من المقرر أن تنتهي في الثامن من كانون الثاني 2025.
"الحرم الجامعي".. بوابة التحديث الانتخابي
وفي نفس السياق، كشفت مصادر رفيعة المستوى في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تقف بالضد من الوزير، عن تزايد المخاوف من استغلال الجامعات في الترويج لأجندات سياسية، وذلك في أعقاب صدور توجيه من الأمانة العامة لمجلس الوزراء يحث الطلبة على تحديث بياناتهم الانتخابية.
ووفقاً لهذه المصادر، فإن هذا التوجيه الذي جاء في سياق دعم المشاركة في الانتخابات، قد تماشى بشكل غير مباشر مع رغبة بعض الأحزاب والحركات السياسية في توسيع مساحة الحراك الانتخابي داخل المؤسسات التعليمية.
وبحسب شهود عيان، فقد استُخدم هذا التوجيه كمدخل لإقامة فعاليات داخل الحرم الجامعي، حمل بعضها رسائل سياسية صريحة، مؤكدين أن "التجمع الذي أقيم مؤخراً في كلية الهندسة بالجامعة المستنصرية شكّل مثالاً واضحاً على هذا التوجه، حيث وُجهت دعوات مفتوحة لطلبة الكليات للحضور، لتُلقى بعد ذلك كلمات تضمنت دعوات مباشرة للانتخاب باتجاه سياسي محدد، في تجاوز واضح لحيادية المؤسسة الأكاديمية".
وأضافت المصادر، أن "بعض القيادات الجامعية التي تم تكليفها حديثاً لم تتردد في التعبير علناً عن ميولها السياسية، في خطوة فسّرها البعض بأنها محاولة لرد الجميل للجهات السياسية التي دعمت تعيينهم".
وأكدت المصادر أن "هذا السلوك يهدد بتحويل الجامعات إلى ساحة للتنافس الحزبي، وهو ما يتعارض بشكل جوهري مع فلسفة التعليم العالي ومبادئ الحريات الأكاديمية".
ووفقاً للمختصين بمراقبة العمليات الانتخابية، فمنذ انطلاق العملية الانتخابية في العراق بعد عام 2003، لم تُسجّل حالات تُجبر فيها الوزارات الحكومية موظفيها رسمياً على تحديث بياناتهم الانتخابية أو المشاركة في التصويت.
إلا أن هذا النهج بدأ يشهد تحولاً، بحسب نفس المختصين، إذ شرعت الجامعات العراقية، بتنفيذ حملة تحديث بيانات الناخبين بالتنسيق مع فرق مفوضية الانتخابات، وقد أصدرت رئاسات الجامعات عبر مكاتب العمداء توجيهات تُلزم جميع الأساتذة والموظفين بإجراء التحديث دون أي استثناء، الأمر الذي فتح باب أمام مثير للجدل حول امكانية وجود ضغوط ستمارس على الطلبة والكوادر التدريسية بشأن المشاركة وانتخابات جهات سياسية معينة.
وأجريت آخر انتخابات تشريعية في العراق (10 تشرين الأول 2021)، وذلك بعد مرور عامين على اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي أدت إلى استقالة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، ليخلفه مصطفى الكاظمي الذي تولى مهمة الإشراف على الانتخابات.
مطالبات بأبعاد "الحرم الأكاديمي" عن الصراعات الانتخابية
بدوره، يقول محمد الزبيدي، وهو أستاذ في إحدى الجامعات في العاصمة بغداد إن "ما تشهده بعض الجامعات العراقية مؤخراً من نشاطات ذات طابع انتخابي يمثل انحرافاً خطيراً عن الدور الأكاديمي والعلمي للمؤسسات التعليمية"، محذراً من "مغبة الزج بالحرم الجامعي في الصراعات السياسية وتحوّله إلى ساحة للترويج الانتخابي".
ويرى الزبيدي، أن "العراق يشهد اليوم محاولات واضحة لتسييس البيئة الجامعية، من خلال تنظيم تجمعات وأنشطة ظاهرها مدني، لكن باطنها توجيه انتخابي مفضوح، يتم أحياناً برعاية ضمنية أو صريحة من إدارات جامعية تم تكليفها حديثاً".
ويضيف الزبيدي، أن "الجامعة ليست منصة للدعاية الانتخابية، ولا يجوز استغلال الطلبة أو الكوادر الأكاديمية في أي نشاط يخرج عن الإطار العلمي والبحثي"، مشيراً إلى أن "هذه التجاوزات تهدد حيادية التعليم وتضعف ثقة المجتمع بمؤسساتنا الأكاديمية".
ووفقاً للزبيدي، فإن استقلالية الجامعات والحريات الأكاديمية ليست ترفاً، بل شرط أساسي لنهضة التعليم وتقدّم المجتمع، مطالباً وزارة التعليم العالي والبحث العلمي باتخاذ موقف حازم حيال هذه الظواهر، ومراقبة أي ممارسات تخرج عن أهداف العملية التعليمية.
ويختم الأستاذ الجامعي، تصريحه بالقول: "إذا سمحنا بتكرار هذا المشهد، فإننا نمهد الطريق لتآكل قيم المؤسسة الجامعية، وتحويلها من منبر للعلم إلى أداة سياسية، وهو ما لا نقبل به كأكاديميين نذرنا أنفسنا لخدمة المعرفة والمجتمع".
وفي بيان رسمي، نشرته المفوضية العليا المستقلة للانتخابات كشفت فيه، عن عدد المواطنين الذين حدّثوا بياناتهم الانتخابية، فيما أشارت إلى أنه بلغ مليوناً و400 ألف ناخب لغاية يوم الخميس المصادف 22 أيار 2025.
المصدر: الجبال
أقرأ ايضاً
- ضمن خطط مركز الهادي لاعتلال العضلات.. شهادات واعتمادات دولية ومشروع "الميثاق الوطني" وخزع وتحاليل تجرى في العراق
- التلويح الأمريكي بمعاقبة "الرافدين" قد يعصف بالدولار والرواتب ويدخل العراق في "عزلة"
- في رحلة البحث عن الضوء.. كيف أصبحت الكهرباء معركة يومية لأبناء العراق؟