- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
حين أشرق وجه الدعاء لقاء في حضرة السيد السيستاني

بقلم/ حسين النعمة
في زمنٍ تتنازع فيه الأرواح بين ضجيج الدنيا وصمت القلوب، وفي عالمٍ تتكاثف فيه الهموم كأنّها غيوم ثقيلة تُظلّل أرواح البشر، حملتُ قلبي المثقل وسرتُ صوب النجف، لا لأنّي أعرف إلى أين أنا ذاهب، بل لأنّ شيئًا ما في داخلي كان يهتف بي: اذهب، فإن في بعض الطرق شفاءً لا يُرى، وبركة لا تُفسّر.
الطريق إلى النجف ليس كأيّ طريق، فثمّة شيء فيها لا يُشبه بقية المدن، كأنّك لا تدخلها بل تُستدعى إليها، كأنّها مدينة لا تستقبل إلّا من كُتب له أن يزورها في لحظة مفصلية بين ما كنت عليه وما ستكون، وحين تطأ قدماك أرضها، تشعر أنّ الزمن يتباطأ احترامًا لساكنيها، وتُدرك أنّك في حضرة مدينة لا تنام، لأنّ الأرواح فيها تظلّ ساهرة عند أعتاب الإمام.
لم أكن أعلم أن خطواتي ستقودني إلى بيت عتيق، بسيط في مظهره، لكنه في الحقيقة بوابة عظيمة لفيضٍ من الروح والعقل والسكينة. هناك، في أحد أزقة النجف القديمة، وقفت أمام باب بيت المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني.
الهواء حول البيت مختلف لا ضجيج، لا فوضى كأنّك تدخل فلكًا آخر، زائرون من كل الجهات، عيونهم تتكلم قبل ألسنتهم، وفي قلوبهم توق عميق لأن ينالوا نظرة، دعاء، أو حتى مجرد ابتسامة من هذا الرجل العظيم الذي لم يغادر محرابه، لكنه غيّر وجه العراق.
دخلتُ وأنا أشعر أن قلبي يخفق كما لم يخفق من قبل، لستُ أمام زعيم سياسي، ولا رجل مال أو سلطة، بل أمام رجل نُسب إلى الله، وأعطى لله، فعلا قدره في قلوب الخلق.
كان جالسًا ببساطة لا تُشبه سواه، هيئة تنضح تواضعًا، وثياب بيضاء نظيفة بلا تكلّف، ووجهٌ فيه من السكينة ما يُطفئ نيرانًا عمرها سنين، عيناه عميقتان كأنّهما قرأتا كتاب الحياة مرارًا، وكأنّه يعرف من أين يأتي الوجع في قلوب الناس دون أن يُسأل.
اقتربتُ بخطوات مترددة، وقد تناثرت في داخلي كل الكلمات، كنت أظن أنّي سأقول الكثير، سأحكي له عن وحدتي، عن ثقل الأيام، عن الهم الذي يتغلغل في تفاصيل حياتي، لكني حين وقفت أمامه، لم أستطع إلا أن أقول بصوت خافت:
– سيدي... ادعُ لي، فقد ضاق صدري بما لا يُقال.
لم ينظر إليّ بدهشة، لم يسألني ما بي، ولم يطلب شرحًا؛ فقط تبسم.
وكانت تلك الابتسامة، والله كأنّها دعاء بحدّ ذاتها، ابتسامة لا يُشبهها شيء، فيها دفء أب، ورقّة نبيّ، ويقين وليّ، ثم رفع كفّيه الطاهرتين، وقال:
– "اللهم إن عبدك هذا قد أتاك بقلبٍ مثقلٍ لا يُدركه أحدٌ سواك، فاجعل له من كل همٍّ مخرجًا، ومن كل ضيقٍ فرجًا، ومن كل حزنٍ سكينة، إن كان ما به من بلاء قد كُتب في لوحك، فأصبره عليه، وقرّبه إليك به، وإن كان مما يمكن دفعه، فادفعه بلطفك يا أرحم الراحمين".
وسكت..
كنت أنظر إليه وأنا أشعر كأنّ جبالًا كانت على كتفي بدأت تتفكك، شيئًا فشيئًا. لم يُعطني حلًّا، لم يُغنني مالًا، لكنه أعطاني ما لم يعطني أحد: السلام.
قال بعدها بهدوء:
– "يا بني، الهمّ امتحان لا يُفهم إلا بعد النجاة منه، وقد كُتب على بعض الأرواح أن تُجرّب ألمها حتى تَبلغ مكانًا لم تكن لتَبلغه بغير الوجع، فاصبر، فإنك إلى فرج أقرب مما تظن، ولو رأيت من لطف الله ما أراه، لما حزنت لحظة واحدة".
تأملت كلامه، وفهمت أن الوجع ليس دائمًا نقمة، بل قد يكون نعمةً مُتخفّية، يُمهّد الله بها لطريقٍ لا يعرفه سواه.
خرجت من عنده وأنا غير الذي دخل. كنت أظن أن اللقاء سينتهي، لكنه في الحقيقة بدأ من لحظة خروجي. صوته ظلّ في أذني، دعاؤه ظلّ يرافقني، ونور وجهه ظلّ يُضيء عتمة دربي. في كل مرّة ضاق بي الطريق بعد ذلك، كنت أغمض عينيّ وأتذكّر تلك الابتسامة، وذلك الدعاء، وذلك الصوت العميق الذي قال لي: اصبر، فإنك قريب من الفرج.
مرت أعوام، وتغيّرت حياتي. لم تختفِ الأوجاع كليًا، لكنّي صرت أعرف كيف أراها. لم أعد أبحث عن العدل في كل شيء، بل صرت أبحث عن الحكمة. لم أعد أطلب أن تتغير الدنيا، بل أن يتسع قلبي لها.
ولمّا سألني أحدهم ذات مرة:
– ما أعظم لحظة مرّت بك في حياتك؟
قلت دون تردد:
– لحظةٌ كنت فيها في حضرة السيد علي الحسيني السيستاني، وسمعت منه دعاءً غيّر مجرى قلبي، فغيّر مجرى أيامي.
إنه رجلٌ لا يحكم، لكنه يُرشد، لا يُصدر الأوامر، لكنه يُلهم، لا يطلب لنفسه شيئًا، لكنه يُعطي للناس كل شيء. رجلٌ لا يملك جيشًا ولا منابر صاخبة، لكن اسمه حين يُذكر، تسكن له القلوب، وتطمئن له الأرواح.
في عالمٍ تمتلئ فيه الشاشات بالضجيج، كانت هيبته في صمته، وفي زمنٍ تتكاثر فيه الشعارات، كانت كلماته قلائل، لكنها ثقيلة، لا تنزل من لسانه؛ بل من قلبٍ متّصل بالله.
إنه السيد السيستاني، النور الهادئ في عتمة هذا العصر.
أقرأ ايضاً
- توجه اكثر من مليون تلميذ لأداء امتحانات السادس الابتدائي
- معضلة القنفذ.. حين تؤذي الأشواك حلم الوطن
- حين تُشترى الأصوات.. تُباع الأوطان