
بقلم: طالب سعدون
تعد عملية (شبكة العنكبوت) الاوكرانية في العمق الروسي الابرز والاكبر حتى الآن في مسلسل الحرب الروسية الاوكرانية، الذي بدأ في (شباط 2022) والمرشح ليكون طويلا، وإلى أمد تقرره مجرياتها، وتصنف من ضمن العمليات الاستخبارية الحربية المتميزة التي تسجل ليس في تاريخ الحروب العسكرية بين الدول فقط وانما في تجسيد طبيعة العمل الاستخباري (الصبر والدقة في جمع المعلومات وانتظار اللحظة المناسبة للتنفيذ ).
التميز في هذه العملية يأتي ليس من طول مدتها، حيث استمر التخطيط لها عاما ونصف العام، وانما من بعد المسافة ايضا حيث حصلت في عمق الاراضي الروسية بإدخال عشرات المسيرات (117 مسيرة) على شاحنات تحمل أطنانا من المتفجرات بما فيها القنابل النووية.
استهدفت العملية التي (اشرف عليها الرئيس الاوكراني زيلينسكي وفقا لمصادر أوكرانية) قواعد تبعد الاف الكيلومترات عن الحدود الاوكرانية (في سيبيريا واقصى شمال روسيا)، دمرت فيها أربعين قاذفة روسية بعيدة المدى، قادرة على حمل رؤوس نووية كما يقول الرئيس الاوكراني، تشكل نحو 34 بالمئة من القاذفات الروسية القادرة على اطلاق صواريخ حسب قول جهاز المخابرات الاوكراني، لكن مصادر اميركية قدرتها بنصف هذا العدد بينما قدرها اخرون بربعه لكن روسيا نفت تدميرها وان ما استهدف قابل للإصلاح.
وأيا كان العدد فانه قد يؤثر في الامكانات النووية الروسية وسمعتها في هذا المجال، لأنه يخصم هذا العدد من الطائرات من قوتها، وقد تحتاج إلى سنوات لتعويضه على حد ما يرى خبراء غربيون في الطيران العسكري على عكس ما يرى آخرون انه لا يؤثر بصورة جدية عليها.
ورغم الرد الروسي القوي على العملية بهجمات واسعة النطاق بهجمات صاروخية وبالمسيرات، الا انه لا يمكن التقليل من رمزيتها وتأثيرها على سمعة روسيا النووية والاستخبارية، خاصة أن المسيرات اطلقت من مواقع مجاورة للمطارات، وأن أحد الأماكن التي اعد فيها الهجوم يقع بجانب مكتب جهاز الامن الفيدرالي الروسي (اف اس بي) على قول الرئيس الاوكراني زيلنسكي، وتقدر كلفتها المادية بنحو سبعة مليارات دولار، مقابل ذلك أصيبت هذه القواعد (بأسلحة رخيصة الثمن).
محللون ومدونون من روسيا عدوا العملية فشلا استخباريا ويوما اسود لطيران روسيا، (وضربة قاسية للغاية) على حد وصف احدى القنوات القريبة من الجيش الروسي.
ومهما حاول الروس التقليل من اضرارها لكنها ستحتاج إلى سنوات لتعويض هذا العدد، كما يرى خبراء غربيون في الطيران العسكري.
وكان لهذه العملية صداها خارج البلدين المتحاربين ايضا بإثارة مخاوف من تكرار هذا النوع من العمليات في اميركا مثلا، فقد حذر المحلل العسكري الاميركي (براندون وايكيرت) في تقرير نشرته مجلة (ناشونال انتريست) من أنه (عاجلا أو آجلا سيحاول خصم ما تنفيذ هجوم على المنشآت الاميركية.. والمسألة ليست اذا حدث بل متى سيحدث) على حد قوله، ويرى (أن أميركا اصبحت عرضة للخطر بنفس الطريقة التي كانت روسيا عرضة لها).
هذه العملية وغيرها من العمليات التي سبقتها في اماكن اخرى تؤكد بما لا يقبل الشك تغير شكل الحروب وتوسع مدياتها لتصل إلى خارج البلدين المتحاربين وساحات القتال العسكري المباشر، ودقة العمل الاستخباري، في جمع المعلومات عن الاماكن المستهدفة (مؤسسات أو أفرادا) وعلى ادخال الاجهزة المطلوبة للعملية المخطط لها واجهزة التحكم بها عن بعد، كما حصل في عمليات الاغتيال التي قامت بها (اسرائيل) في الخارج وعملية (البيجر) ضد حزب الله، من خلال تفجير أجهزة الاتصال اللاسلكي المفخخة، التي تمكنت من خلالها الوصول إلى اعضاء في الحزب واستهدافهم، ودور (مسيرات شاهين) واستخدامها من قبل المعارضة السورية في اسقاط نظام الاسد.
ان التطور التكنولوجي الهائل في المجال الرقمي والذكاء الصناعي الذي دخل مجالات كثيرة وهو في تطور سريع ومستمر، يجعل المحلل لا يستبعد أن تخضع الأسلحة التي تستوردها الدول إلى السيطرة الرقمية وتستخدم ضد الدولة المستوردة متى ما تطلب الامر ذلك، خاصة في حالة حدوث صراع معها.
درس استخباري مهم ينبغي ألا يمر دون التوقف عنده والاستفادة منه، خاصة من قبل الدول التي تتعرض أو يمكن ان تتعرض إلى حرب لتكون مهيأة لهذا النوع من الحروب والتوجه إلى التصنيع المحلي للسلاح، بدل أن ترهن ارادتها بيد الدول المصنعة له، كما فعلت دول كثيرة، وتهتم بآخر تطورات التكنولوجيا في المجال الرقمي والذكاء الصناعي وادخاله ضمن مناهج التعليم بمراحلها المختلفة لأن المستقبل له، فهو لم يعد تقنية ذكية فقط بل أصبح فاعلا اساسيا في مختلف مجالات الحياة ومنها الجانب العسكري والاستخباري، ومن أسلحة الردع والتوازن وفي القدرة على الرد أو الهجوم واتخاذ القرارات السريعة.
ولا يستبعد أن يصل في يوم ما إلى مستوى من التطور يتفوق فيه على الاسلحة النووية.. وعندها لن يعود حكرا على الدول المتقدمة، بل مفتوح امام جميع الدول التي تريد أن يكون لها مكان تحت الشمس.