- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الدمعةُ لغةٌ لا تحتاجُ إلى ترجمة

بقلم: حسين النعمة
في كربلاء، لنا تسأل الزائر عن لغته أو جنسيته، لا تفتش في جوازه ولا تحاول أن تكتشف مذهبه أو عقيدته من لهجته. هنا، الدمعة تسبق الكلمة، وتخترق الحناجر قبل أن تُفكّر الشفاه بنطق أي اسم. في كربلاء، يتساوى الجميع أمام منحر الحسين، وتغدو الدموعُ هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الجميع بلا معاجم، بلا حروف، بلا مترجمين.
في يوم عرفة، حيث تشرئبّ الأرواح نحو السماء، ويفترش المتعبون الأرض بقلوبهم قبل جباههم، تُباغتك دموعُ الزائرين وهم يستمعون إلى دعاء الحسين، وكأنّ كل كلمة فيه تُنبش ذاكرة الحنين فيهم. لا يهم إن كنت قادماً من قرية في جنوب لبنان، أو من حيّ شعبي في كراتشي، أو من أطراف لندن… الجميع يبكون كأنّ الدعاء كُتب باسم كل واحدٍ منهم، وكأنّ الحسين ينظر إليهم وهو يتلو على الله أسماءهم، ويذرف بدلَ كل اسمٍ دمعة.
وفي عاشوراء، حين يكتسي الحزن سوادًا لا تشوبه إلا دموعٌ تشعّ من العيون، ترى الطفل يبكي لأن أمّه تبكي، وتبكي الأم لأن الحسين قُتل عطشانًا، ويعلو النشيج بين الحناجر كأنّه موسيقى قديمة حفظتها الفطرة، فدمعت لها العيون قبل أن تفهمها العقول. رأيتُ زائرًا من أقصى الشرق الآسيوي يحتضن صورة المذبوح على الثرى، ويبكي كما لو أن المأساة حصلت هذا الصباح. سألته عن اسمه، فأجابني بدمعة.
ثم تأتي الأربعين، المشهد الذي لا يحتاج عدسات ولا تقارير ولا مؤتمرات، بل يكفي أن تقف جانبًا، وتراقب ملايين الأقدام تسير بصمت، وملايين العيون تمطر دموعها على تراب الطريق، كل دمعة تقول: "لبّيك يا حسين". هناك شيخٌ يحمل صورة لولده الذي استُشهد في الدفاع عن الحرم، وهناك شابٌ باكٍ يخيط راية مكتوبٌ عليها اسم الحسين بلغته الأم، وهناك امرأة تضع يدها على صدرها وتمضي… لا أحد سألها شيئًا، لأن دموعها أجابت عن كل شيء.
في الطريق إلى كربلاء، ترى الدموع تسير قبل الخطى، كأنها تُمهّد للسالكين دربًا من إخلاص. دموعٌ تنحدر لا لأن الحزن متأصل في النفوس، بل لأن الحسين أيقظ فيهم إنسانيتهم، وعلّمهم أن الشهادة ليست موتًا، بل حياة في ذاكرة الباكين.
دموع الزيارة ليست ضعفًا، ولا نواحًا عابرًا، بل هي ذاكرةٌ حيّة تنبض في وجدان الأمة. دمعةُ الزائر هي توقيعه على عهد الولاء، وصوته الصامت في خطاب الخلود، وسطره المكتوب على صفحة الطريق.
كنتُ أجمع هذه الدموع، لا في قارورة، بل في قلبي، وأحاول أن أوثقها كما تُوثّق الحِكم، فأدركت أنني لا أحتاج إلى حبر ولا ورق، بل إلى بصيرة.
وها أنا لا زلت أسعى لتوثيقها...
دمعةً دمعة، كمسبحةٍ تُترجمُ معنى كلّ دمعة.
أقرأ ايضاً
- فتوى الجهاد الكفائي وآثارها الإصلاحية على الأفراد
- البعث المحظور وصناديق الاقتراع
- حقائق وأوهام السياسات الاقتصادية في العراق بصدد قيمة الدينار مقابل الدولار في السوق الموازي