
توصيفات مخيفة أطلقتها الحكومة والبرلمان وخبراء المياه على الصيف الحالي، وفيما أفاد متحدث حكومي بأن الفصل الحالي لم يشهده العراق منذ 80 عاما، أصر نائب وخبير في شؤون المياه والزراعة على أن هذا الصيف هو “الأسوأ تاريخيا” من حيث الجفاف وندرة المياه، وفيما أرجعوا الأسباب إلى سياسات دول المنبع، لم يتحدثوا عن حلول أكبر من التفاهم أو “التقاضي” مع جاري العراق تركيا وإيران اللذين خفضا حصة العراق من روافده.
ويقول عضو لجنة الزراعة والمياه النيابية ثائر مخيف، إن “العراق لم يسبق له المرور بهذه الأزمة عبر تاريخه، ولو كانت الأسباب طبيعية فقط كشحة الأمطار وتطرف المناخ فهذا مقبول، لكن هناك أسبابا بشرية هي من فاقمت حجم الكارثة”.
ويضيف مخيف، أن “الأزمة المائية العراقية تعود إلى أسباب بشرية من دول المنبع تركيا وإيران على حد سواء، وتلك الأخيرة على الرغم من عدم ذكرها إعلاميا إلا أن نحو عشرات المجاري المائية الواردة منها انحرفت أو وضعت عليها سدودا”، لافتا إلى أن “كل الحكومات بعد 2003 جاملت دول المنبع على حساب قطع مواردنا المائية وحصصنا، وتركيا استغلت هذا الضعف وتذرعت بأننا لا نعرف إدارة مياهنا وهي ذريعة أهانت تاريخنا وحضارتنا”.
وعن الحلول، يشير مخيف إلى مقترح قدمه عندما كان رئيسا للجنة الزراعة والمياه في الدورة النيابية الماضية، إذ يقترح “تشكيل مجلس أعلى لإدارة المياه، اشترط له أن يكون بعيدا عن الأحزاب، وثابتا لا يتبدل بتغير الحكومات، وأن يضم خيرة الكفاءات ممن يمتلكون خبرة متراكمة في هذا المجال، لتفعيل الجانب القضائي الدولي لأن الحقوق تنتزع ولا تطلب”.
وبات مخزون المياه في العراق في أدنى مستوياته منذ 80 عاما بسبب موسم الأمطار الضعيف للغاية وانخفاض تدفق نهري دجلة والفرات، وفق ما أفاد متحدث وزارة الموارد المائية خالد شمال، مؤكدا أن النقص في المياه أسوأ من العام 2024، وسيجبر العراق على تقليص مساحة الأراضي الزراعية المزروعة هذا الصيف.
وقال شمال “في بداية موسم الصيف من المفترض أن يكون لدينا ما لا يقل عن 18 مليار متر مكعب، أما الآن فنحن لدينا حوالى 10 مليارات متر مكعب”، موضحا أنه “خلال 80 سنة لم نحصل على خزين منخفض، بهذا الشكل”.
من جهته، يعضد الخبير المائي تحسين الموسوي، تصريح متحدث وزارة الموارد المائية، بل يذهب إلى أن “هذه الفترة هي الأسوأ على مر التاريخ، فعندما نتحدث عن نسبة الموارد المائية يجب الحديث عن نسبة الموارد البشرية، ونسمات العراق اليوم أكثر من 45 مليونا يقابلها خزين مائي بـ10 مليارات متر مكعب، يعني أن حصة الفرد العراقي أصبحت أقل من 100 متر مكعب سنويا وهي ما يعادل النسبة التي تخصصها دول لا تمتلك أنهارا ولا أحواضا (سابقا كانت أكثر من 2000 متر- حسب الموسوي)”.
ويضيف الموسوي، أن “هناك من فتح حرب المياه على العراق، إذ يمر البلد بالموسم الخامس على التوالي بالجفاف، ويقابل ذلك سوء إدارة في هذا الملف على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويصاحبه التطرف المناخي الذي أدخل العراق في خانة الدول الخمسة الأكثر تأثرا”.
ويوضح أن “الخزين الموجود لا يمكن أن تتحقق عليه خطة زراعية، فهذا الصيف صعب بكل الأرقام والاحتمالات، ولا يستطيع العراق معالجة هذا الوضع الحالي إلا بالضغط على دول المشاركة المائية لإطلاق المياه إليه، لأن الوضع الحالي هو وضع طوارئ”.
ويرى الخبير المائي، أن “سوء إدارة الملف الداخلي للمياه لا يقتصر على وزارة الموارد المائية، بل مستخدمي المياه أيضا في الزراعة وطرق الري الكلاسيكية، فالمواطن العراقي مازال يعيش في زمن الوفرة المائية ولم يدرك بعد أن أزمة المياه عالمية”.
ويعتقد أن “العراق يحتاج إلى الدبلوماسية النشطة والمفاوضات بأوراق قوية والذهاب إلى المحاكم الدولية، وعليه اللجوء إلى المجتمع الدولي لانتزاع حقوقه”.
ويشدد الموسوي على “ضرورة تغيير استخداماتنا للمياه بخطط وقوانين صارمة، فالخطط الحالية ليست بمستوى الأزمة، إذ نحتاج إلى إرادة وطنية لاسيما أن الوضع الإقليمي له تأثير على الوضع العراقي، يجب أن تكون هناك مصارحة بهذا الملف الخطير والذي بدأت آثاره السلبية تظهر على الواقع”.
وفي ظل ارتفاع درجات الحرارة والجفاف المستمر منذ خمس سنوات على الأقل، تنتقد بغداد بانتظام السدود التي بنيت على النهرين في بلدي المنبع تركيا وايران، والتي أدت إلى انخفاض كبير في مستوى النهرين اللذين يشكلان المصدر الأساسي للمياه في العراق.
ومنذ شتاء 2022 حذر تقرير صادر عن البنك الدولي من أن العراق سيواجه فجوة مائية متسارعة قد تصل إلى 11 مليار متر مكعب بحلول عام 2035، مشيراً إلى أن تغير المناخ لا يهدد الموارد فقط، بل يُعرض العقد الاجتماعي في البلاد للخطر.
وعد التقرير أن العراق من أكثر الدول هشاشة في مواجهة التغيرات المناخية، سواء من حيث شُحّ المياه وارتفاع درجات الحرارة، أو من حيث ضعف البنية الاقتصادية التي تعتمد على النفط كمصدر دخل رئيسي.
من جهته، يرى مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، غازي فيصل، أن “تركيا كانت أكثر استعدادا للتعاون مع العراق في ملف المياه من خلال زيادة التدفقات وتنفيذ مشاريع مشتركة، لكن إيران لم تُبدِ نفس القدر من التعاون”.
ومن ضمن المساهمات التركية، يذكر فيصل، أنه “في آذار 2025، بدأت تركيا تنفيذ اتفاق مع العراق يقضي بزيادة تدفق المياه في نهر دجلة إلى 1500 متر مكعب في الثانية، وهو ضعف الكمية السابقة. لكن هذا الاتفاق كان ساريا لمدة شهر واحد وقابلًا للتمديد، وقد ساهم في رفع منسوب المياه داخل النهر”.
ويشير أيضا إلى أن هناك “اتفاق إطار التعاون المائي حدث في نيسان 2024، واجتماعات اللجنة الفنية المشتركة، وتم الاتفاق على إنشاء مركز مشترك لأبحاث الموارد المائية في بغداد للتعامل بشكل تعاوني مع تحديات المياه وتطوير استراتيجيات الإدارة المستدامة للمياه”.
وفي مقابل هذا، يوضح فيصل أن “إيران لم تُسجّل خطوات ملموسة لتعزيز تدفقات المياه إلى العراق. بل على العكس، قامت إيران بتحويل مجاري العديد من الروافد التي كانت تصب في نهر دجلة داخل الأراضي العراقية، مما أدى إلى تقليص كميات المياه الواردة إلى العراق. وتُعتبر هذه الإجراءات من بين الأسباب التي تفاقم أزمة المياه في العراق”.
ولم يفلح العراق منذ منتصف القرن الماضي، بوضع حلول نهائية لأزمة متكررة باتت ورقة ضغط بيد دول المنبع تركيا وإيران، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من خلال التحكم بشكل مطلق بتدفق مياه نهري دجلة والفرات.
ويبدو أن الحكومات العراقية، على مدى قرن مضى، فشلت في توقيع اتفاق ملزم مع الجارتين، يضمن حقوق بلاد ما بين النهرين بشكل دائم.
وكشف مؤشر جفاف التربة SPI لمنطقة الشرق الأوسط لشهر كانون الأول 2024، وجود جفاف حاد ومتطرف لعموم مناطق العراق (ما بين 1.6-1.8) عن الحد الطبيعي، حسبما أفادت به هيئة الأنواء الجوية العراقية.
ولوح العراق، في 24 كانون الأول 2024، بتدويل قضية أزمة المياه مع تركيا عبر المحاكم الدولية، إلا أنه لم يتخذ أي إجراء بهذا الشأن حتى الآن.
وكان السياسي البارز والناشط الحقوقي، بختيار أمين، أكد في تصريح سابق، إن “العراق بإمكانه تدويل ملف المياه، لكنه لغاية الآن يستخدم الطرق الحوارية مع الدول المجاورة”، مبينا أن “دول الجوار باتت تستعمل المياه كسلاح، فهي أخذت تزرع وتصدر المحاصيل الزراعية للعراق، بدلا من تزويده بحصته من المياه”.
ويبلغ إجمالي معدل الاستهلاك لكافة الاحتياجات في العراق نحو 53 مليار متر مكعب سنويا، بينما تقدر كمية مياه الأنهار في المواسم الجيدة بنحو 77 مليار متر مكعب، وفي مواسم الجفاف نحو 44 مليار متر مكعب، وإن نقص واحد مليار متر مكعب من حصة العراق المائية يعني خروج 260 ألف دونم من الأراضي الزراعية من حيز الإنتاج.
ووفقا لتوقعات “مؤشر الإجهاد المائي” فإن العراق سيكون أرضا بلا أنهار بحلول عام 2040، ولن يصل النهران العظيمان إلى المصب النهائي في الخليج العربي، وتضيف الدراسة أنه في عام 2025 ستكون ملامح الجفاف الشديد واضحة جدا في عموم البلاد مع جفاف شبه كلي لنهر الفرات باتجاه الجنوب، وتحول نهر دجلة إلى مجرى مائي محدود الموارد.
وأدى ارتفاع درجات الحرارة في العراق إلى انخفاض كبير في هطول الأمطار السنوي، والذي يبلغ حاليا 30 في المئة، ومن المتوقع أن يصل هذا الانخفاض إلى 65 في المئة بحلول عام 2050.
ويرى مختصون أن العراق مقبل على كارثة بيئية اذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن، وهذا سيكون بمثابة كارثة إنسانية لبلاد ما بين النهرين، وبالتالي هجرة الريف إلى المدينة في ظل عدم نجاح الحلول الحالية، فمن الأفضل للسلطات العراقية التوجه إلى إستراتيجية وطنية جديدة، تعمل على ترشيد استخدام المياه، ورسم سياسة ري جديدة للأراضي الزراعية، وتحديد حصص المحافظات، والعمل بجدية على وقف التجاوزات الموجودة في بعضها.
المصدر: صحيفة العالم الجديد
أقرأ ايضاً
- ما سر تنافس "رؤوس الإطار" على زعامة بغداد؟
- العراق يعتزم إجراء تعداد زراعي لأول مرة منذ 70 عاماً.. خطوة نحو الأمن الغذائي أم "استهلاك إعلامي"؟
- بعد تعافيه من الادمان.. احد ضحايا المخدرات: كنت ارى أبي وأمي من ألد اعدائي